مُختفون و مُكلخون

قبل يومين، أخذت دفتري الصحي )المدرسي( و بدأت أتصفحه. وأنا أتجول بين صفحات هذا الدفتر الأزرق السماوي الجميل، فوجئت أن جسدي الصغير تم فحصه أكثر من مرة ـ خلال سنوات تمدرسي الإعدادية ـ من شعر الرأس إلى أصابع القدمين، مرورا بأعضائي الداخلية دون أن ينسى الطبيب في كل مرة يوقع أني سليم من كل خلل أو مرض: البصر 10/10، السمع و الطاعة جيدين، الجهاز العصبي، "ww" باقي فالميكة. الجهاز الهضمي، مهضوم. الهيكل العظم، عظيم. الجهاز التنفسي سليم، الجهاز الدوراني سليم. التسليم أخوتي التسليم، هذا هو الباطل!! هذا الدكتور الشبح اسمه سعيد، أما اسمه العائلي فهو غير موجود لأنه تفنن في طبع الأوراق بنصف الطابع فقط، و هكذا يبدو أن الدكتور خبير أيضا بعلم الإجرام و التحري الجنائي و لا أستبعد أن يكون قد وضع قفازات أثناء القيام بعمله.شعرت بالخدعة و الأسى لأن هذا الدفتر الصحي المليء بالإفتراء حملته في حقائبي أينما ذهبت. لازمني ككل المتمدرسين طوال مساري الدراسي، طالما سافر معي من مدينة إلى أخرى دون أن يثير يوما انتباهي أو أفكر في قراءته. أشياء كثيرة نقوم بها دون أن نعرف لماذا. يسهل مثلا أن تشاهد مصليا خارجا من المسجد و هو يرفع نعليه إلى السماء دون أن يكون بجانبه شخص يزاحمه يخشى أن يوسخه. و حتى لا أستدل بالغير فقط، سأستدل بغبائي أيضا، و الذي صقلته المدرسة جيدا فيما بعد ليصبح ما يسمى الكلخ وهو درجة متقدمة من الغباء. فعندما كنت أرافق والدتي إلى الحقول و أتعب أبكي ككل الأطفال مترجيا أن تحملني، فكانت تبتدع حيلة ذكية حيث تطلب مني أن أعد عشرين خنفساء في الطريق، و طبعا لا أكاد أصل العشرة حتى أجدني داخل البيت.نعم، طوال حياتي الدراسية )إن صح التعبير(، لم يسبق لطبيب أن فحصني، باستثناء طبعا الوخز بالإبر ـ وهي بالمناسبة عملية نشتركها حتى مع ضفادع المختبرات ـ وياليتها كانت ذكرى سعيدة تترجم اهتمام الوزارة بصحة تلاميذها. اسمحوا لي أن أعود بكم قرابة العشرين سنة إلى الوراء:كان عمرنا سبع سنوات حين جاء طبيب المدينة إلى مدرستنا بقرية تكنزالت، الواقعة بمدينة ورزازات، انتشرت الإشاعة بين من يدعي أنهم يمتصون دماء أجسادنا الصغيرة النحيلة لأجل بيعه ومن يقسم أنه رأى بأم عينيه هذا الطبيب وهو يتجه نحو المستشفى محملا بقنينة عملاقة من الدم !!!لم يكلف المعلم ولا الطبيب نفسيهما عناء شرح أسباب الحقن ولا أخذ عينات من الدم، فبدى صمت و بريق عيني الطبيب الأشقر مزكيا لنظرية أكبر غبي بالقسم: " إنهم يبيعون دماءنا و يحقنوننا بمادة تجعلك تصبح غبيا و جبانا أيضا " !!هم الهلع بيننا و انتشر صمت رهيب، كسره كلام الطبيب الذي جعلنا نحن الذكور نتنفس الصعداء، فالإناث وحدهن سيلتحقن بالقاعة المجاورة لأجل تلقيحهن…أخذنا ننظر إلى المسكينات بسخرية، طبعا لأنهن سيصبحن قريبا غبيات و جبانات !! في المقابل طلب منا نحن الذكور القيام بعمل بسيط و ممتع في الآن ذاته: ملء قنينات صغيرة بعينات من بولنا.ذهبنا خلف سور المدرسة، وهناك أخذ كل منا يتفاخر بحجم قضيبه الذي لا يلج القنينة أو بصوت بوله القوي الذي يصنع رغوة كثيفة…ملئنا القارورات وعدنا أدراجنا ليستقبلنا المدرس واحدا تلو الآخر ليتسلم العينات منا. واستقباله لي كان الأفضل ! فما إن أمسك قارورتي و نظر إليها في ضوء الشمس حتى صفعني صفعة قوية جعلتني أنسى من أكون…لم أستعد توازني إلا بفضل معلمي (العزيز بالمناسبة) الذي صفعني صفعة أخر على الخد الأيسر و صرخ في وجهي:ـ أيها الحمار طلبنا منك بولك و ليس ماء الساقية !!ـ لكن أقسم أنه بولي، وهو بدون لون لأنني لم أشرب الشاي أو لأني أكثرت من الماء.ـ لا تلعب معي، إذهب و املءها !! وببول حقيقي هذه المرة، أريده أصفرا. أسمعت؟؟!!طلبت من صديقي أن يرافقني، ليس ليكون شاهدا، بل ليملأ قنينتي بدلا مني. لم يكن صديقي الذي ملأ قنينته قبلي و رسم وجوها على حائط المدرسة بما تبقى من ماء داخل مثانته، يشعر برغبة في قضاء حاجته، لكنه تمكن بعد طول انتظار و اعتصار من ملء قنينتي الصغيرة و ببول أصفر كالذهب.كانت خطواتي حزينة، فأنا لم أفهم لماذا ضربني و لماذا لم يفهم أن البول )الذي لا شك يتخلص منه الطبيب في الطريق( لا يكون دائما أصفرا. في بالمقابل فهمت أنه لقح في صغره فأصبح غبيا و…هذه قصتي، لا زلت أبحث عن الدكتور سعيد، السعيد بالتزوير الذي قام به، و بواجبه الذي لم يقم به. عافاك، إيلا كنتي كاتسمع اتصل بالبرنامج، راه المكلخين ديال الكوليج كاملين كايقلبو عليك.هنهنهنهنهن…
كتبهاهشام منصوري ، في 27 أبريل 2007 الساعة: 23:17 م
مُختفون و مُكلخون
Reviewed by Unknown
on
2/20/2010 11:46:00 ص
Rating:
ليست هناك تعليقات: